الاثنين، 2 مايو 2016

1- مقدمة

لا يوجد شيئ اسمه تجربة سهلة، كما لا يوجد أي بديل يحل محل إجراء تجارب دقيقة في العديد من المجالات المتعلقة بأساسيات البحث العلمي و تطوير المنتجات التطبيقية. و نظراً للأهمية القصوى لعمل التجارب في كل المجالات الهندسية، فبالتأكيد لابد أن يكون المهندس مطلع على أساليب القياس فضلاً عن التقنيات التحليلية لتفسير البيانات التجريبية.
لقد تطورت التقنيات التجريبية بشكل سريع مع تطور الأجهزة الإلكترونية الخاصة بقياس الخصائص الفيزيائية الأساسية و التحكم في متغيرات العمليات الإنتاجية. و في حالات كثيرة أصبح من الممكن قياس الكميات الفيزيائية الأساسية بإستخدام هذه الأجهزة الحديثة و بمزيد من الدقة. و من المؤكد إستمرار التطوير في تقنيات أجهزة القياس نظراً لزيادة الطلب على وسائل القياس و التحكم في المتغيرات الفيزيائية لعدد كبير من التطبيقات المختلفة.
أصبح واضحاً أن المعرفة السليمة للعديد من المبادئ الهندسية ضرورة لعمل تجارب ناجحة؛ و ذلك هو السبب في صعوبة إجراء التجارب. فعند تصميم التجربة، لابد أن يكون المهندس قادراً على تحديد المتغيرات الفيزيائية المراد دراستها و الدور الذي ستلعبه لاحقاً في المجهود التحليلي. و بالتالي لتصميم أو إختيار أجهزة القياس الخاصة بالتجربة، لابد أن يكون المهندس على دراية بالمبادئ المتحكمة في تشغيل عدد كبير من أجهزة القياس. و في النهاية لابد أن يكون مهندس التجارب لديه مزيج من البصيرة النافذة لطبيعة المبادئ الفيزيائية للعمليات المراد دراستها و دراية بمحدودية البيانات المتوفرة.
إن البحث العلمي يتضمن مزيج من المجهود التحليلي و التجريبي. فالمُنَظِّرين يجاهدون من أجل تفسير و توقع النتائج التجريبية على أساس من النماذج التحليلية التي تتوافق مع المبادئ الفيزيائية الأساسية المثبتة على مدار السنين. و عند مواجهة بيانات تجريبية لا تتوافق مع شكل النظريات الفيزيائية القائمة، يتم توجيه عيون الشك أولاً إلى البيانات التجربية و من ثم إلى النظريات المتعلقة بها. و في بعض الحالات يتم تعديل أو مراجعة النظرية لتأخذ في الإعتبار النتائج التجريبية الجديدة، و ذلك بعد التأكد تماماً من سلامة هذه البيانات. و على كل حال فإن النظريات الفيزيائية في نهاية الأمر لابد أن تعتمد على التجارب للتحقق من سلامتها.
سواءً ما كان البحث العلمي ذو طبيعة تأسيسية أم تنموية، فسيظل مهيمين عليها الدور التجريبي. فدائما الفيزيائي النووي يختبر النظريات العلمية في المختبر ليتاكد من صلاحيتها، و مثله في ذلك مثل المهندس الذي يجري بحث علمي على دائرة إلكترونية حديثة أو نوع جديد من أنظمة التدفق الهيدروليكي، فبالتأكيد لابد أن يقوم بعمل عدد كبير من التجارب للتأكد من صلاحيتها. فالتجربة المادية تعتبر هي نهاية المطاف لمعظم النظريات العلمية.
نجد في العديد من التطبيقات الهندسية أن بعض الظواهر الفيزيائية المعروفة جيداً قد تمت الإستفادة منها بالفعل في أجهزة القياس. و من أمثلة ذلك الكواشف الإشعاعية، و الدوائر الإلكترونية، و عدادات التدفق، و بعض الآلات الميكانيكية. و مع ذلك سوف تظهر دائما إستخدامات جديدة لهذه الأجهزة بتركيبها مع أجهزة أخرى، على سبيل المثال، نوعية جديدة من المكبرات أو نوعية جديدة من أنظمة التحكم في التدفق. و في هذه الحالات لابد أن يستفيد المهندس من كل الخبرات المتاحة في الأجهزة السابقة لتصميم الجهاز في تطبيقات جديدة. و بغض النظر عن مدى مصداقية المعلومات التي تم على أساسها تصميم الجهاز، فلابد أن يصر المهندس على إجراء إختبارات تجريبية شاملة على الجهاز الجديد قبل الإنتهاء من التصميم و البدء في إنتاجه.
يوجد عدد كبير من التجارب و الإختبارات التي قد تستدعي أن يقوم المهندس بعملها. و هي تتراوح بين إختبار بسيط لتحديد الوزن إلى قياسات إلكترونية دقيقة للنشاط الإشعاعي الذري. و نظراً لوجود عدد كبير من التجارب فلابد أن تتنوع الخلفية التجريبية للمهندس حتى يستطيع توظيفها بفاعلية في العديد من التجارب. و من الواضح أنه لا يمكن أن نجد نفس الشخص يستطيع القيام بكل الأعمال التجريبية بنفس مستوى الكفاءة العالية في كل المجالات. فقدراته الاساسية تتطور بالضرورة في المجال التجريبي المرتبط إرتباطاً وثيقاً بقدراته التحليلية و التنظيرية و إهتماماته المتعلقة بها. و على الأرجح أنه كلما إتسعت إهتماماته كلما إستطاع أن يطور إهتماماته و قدراته التجريبية.
لقد كان يوجد في الماضي بعض المهندسين مهنتهم الأساسية هي إجراء التجارب – كانوا يصممون وسائل القياس عن طريق المحاولة و الخطأ، و بمقدار ضئيل من المجهود التحليلي، تمهيدا لإستخدامها في التجارب. و توجد بعض المجالات الهندسية قد تكون هذه التقنيات ما زالت سائدة فيها، و نجد فيها بشكل أساسي أن سنين من الخبرات قد عملت على تراكم مقدار من المعرفة يتم الإعتماد عليها في تصميم وسائل القياس الجديدة. إلا أنه في المجالات التطبيقية الجديدة لابد من وضع مزيد من التأكيد على المزج بين النظرية و التجريب. و لتوضيح ذلك نستشهد بتطوير محركات الصواريخ. فمن الممكن عمل عدد كبير من الصواريخ المختلفة و إختبارها حتى نحصل على تركيبة من العوامل التصميمية الناجحة؛ إلا أن ذلك سوف يكون بتكلفة باهظة لا تسطيع أي ميزانية أن تتحملها و توافق عليها. أما المنهج السليم هو عن طريق المزج بين الإختبار و الدراسة النظرية حيث يتم تقيم البيانات التجريبية بإستمرار و مقارنتها بالتقديرات النظرية. و لقد تم إنشاء نظريات جديدة بناء على القياسات التجريبية، و هذه النظريات تساعد على ترشيد عدد الإختبارات المطلوبة للوصول إلى التصميم النهائي.
إن المهندس ينبغي عليه معرفة ما يبحث عنه قبل أن يبدأ في إجراء التجارب. فأهداف التجربة سوف تحدد مقدار الدقة المطلوبة، و التكلفة المناسبة و مستوى المجهود الإنساني الضروري. فعمل معايرة بسيطة لترمومتر زئبقي يُعتبر مسألة بسيطة نسبياً تحتاج إلى كمية محدودة من المعدات و الوقت: إلا أنه لعمل قياس دقيق لدرجة حرارة تيار من الغازات عالية السرعة عند درجة حرارة 1600°C (2912°F) سوف يتطلب مزيد من التفكير و العناية. و عمل إختبار لمكبر صوت لمنظومة موسيقى منزلية قد يكون اقل دقة من إختبار مكبر لإستخدامة كجزء من جهاز إلكتروني داخل قمر صناعي.
إن المهندس لا يهتم فقط بقياس المتغيرات الفيزيائية و لكنه يهتم أيضاً بالتحكم فيها. فكلاً من الوظيفتين مرتبطين ببعضهما البعض إرتباطاً وثيقاً، و ذلك نظراً لضرورة القدرة على قياس متغير مثل درجة الحرارة أو معدل التدفق لإمكانية التحكم فيه. و بالضرورة مقدار دقة التحكم يعتمد على مقدار دقة القياس. و بالتالي فإننا نرى أن المعرفة الجيدة بتقنيات القياس ضرورية لتصميم أنظمة التحكم. و رغم أن الدراسة التفصيلية لأنظمة التحكم خارج نطاق دراستنا، إلا أن قابلية تطبيق أجهزة معينة و وسائل قياس على أنظمة التحكم سوف يتم الإشارة إليها من وقت إلى آخر.
ليس كافياً للمهندس أن يكون قادراً على قياس بعض المتغيرات الفيزيائية بمهارة. فلكي تكون للبيانات أقصى دلالة ممكنة لابد أن يكون المهندس قادرا على تحديد درجة دقة قياس تلك المتغيرات. و لتحديد هذه الدقة لابد من معرفة حدود قدرات الجهاز و الأخذ في الإعتبار بعض الأخطاء العشوائية و المعتادة التي قد تحدث في البيانات التجريبية. كما تتوفر تقنييات إحصائية خاصة بتحليل البيانات من أجل تحديد الأخطاء المتوقعة و مقدار الحيود عن القياسات الحقيقية. و لابد أن يكون المهندس ملم بهذه التقنيات حتى يمكنه تحليل البيانات بالكفاءة المطلوبة.
أن المهندس في أغلب الأحيان يبدأ في مباشرة البرنامج التجريبي بطريقة عمياء غير مُوَفَّقَة. فإنه يقوم بجمع البيانات بطريقة عشوائية، فضلاً عن أن الكثير منها قد لا يحتاجه لاحقاً في مرحلة التحليل. و قد لا يقوم بدراسة جزء من مدى التشغيل بالشمولية الكافية، مما يؤدي إلى تجميع بيانات قد يكون لها قيمة ترابطية محدودة بين بعضها البعض. فلابد أن يتأكد المهندس من تجميع البيانات الكافية و في نفس الوقت ينبغي أن لا يسرف في الوقت و الأموال بأخذ بيانات كثيرة ليس لها لزوم. و النقطة التي لابد أن تكون واضحة في ذهن المهندس أن التجارب لابد أن يتم تخطيطها بعناية. و معظم القائمين على التجارب بالفعل يقومون بتخطيط الإختبارات بناء على مدى بعض المتغيرات التي سوف يحتاجون دراستها. إلا أنهم غالباً ما يهملون حقيقة أنه قد يكون من الضروري أخذ مزيد من النقاط في بعض نطاقات التشغيل  أكثر من مثيلاتها من أجل التأكد من نفس درجة دقة تقييم البيانات النهائية. و بمعنى آخر، فإن الأساليب المستخدمة في تحليل البيانات أو إحصائها أو غير ذلك ينبغي أن يتم أخذها في الإعتبار في تخطيط التجربة، مثلما يتم الأخذ في الأعتبار بعض المتغيرات في تصميم الحجم المادي للجهاز التجريبي. كما ينبغي دوماً  على المهندس إثارة السؤال التالي: ما حجم البيانات التي أحتاجها للتأكد من أن بياناتي ليست نتيجة ضربة حظ؟ و إننا سوف نزيد من الكلام حول تخطيط التجارب خلال هذا الكتاب، و ينبغي على القارئ أن لا يعتبر هذه الملاحظات المفتوحة إلا كمحفزات إبتدائية فقط.
لقد تم وضع بعض الملاحظات المتعلقة بالبحث العلمي التجريبي. فمن الصعب جداً وصف تقنيات و أجواء البحث العلمي. و لذلك على عكس الأداء القياسي للإختبارات التي يتم تنفيذها طبقا لبعض الإجراءات الراسخة، ففي البحث العلمي نادراً ما توجد طريقة واضحة للإجراءات المتبعة. فكل مشكلة تعتبر فريدة من نوعها، و إذا إستحقت البحث العلمي فذلك يدل على انها لم يتم دراستها من قبل بتوسع. و ذلك يعنى أن المهندس المرتبط بالبحث العلمي لابد أن يكون مستعد لمواجهة عدد كبير من المشاكل التجريبية المختلفة في نوعية تعقيدها. و بعض النقاط المستهدفة في البحث العلمي ربما قد يتم التخفيف منها نظراً لعدم وجود أجهزة متاحة لقياس المتغيرات المرتبطة بها. و العديد من التفاصيل التي قد تبدوا تافهة تصبح مشكلة بحثية كبرى بعد تشغيل أجهزة إختبارات جديدة. و من المشاكل الأساسية؛ أن المهندس نادرا ما يقوم بقياس المتغير الذي يريد دراسته بطريقة مباشرة. فدائما ما يوجد تصحيح لابد من إجراءه على القياسات، و نادراً ما تقع القياسات في نطاق القيم التصحيحة "القياسية". كما أن أحدى التفاصيل التافهة قد تتراكم فوق نظيرتها حتى تتعقد المشكلة البحثية التي لم يكن يتوقع لها ذلك في البداية. و مرة أخرى نعلن الحقيقة البديهية: أنه لا يوجد ما يُسمى بتجربة سهلة.
إن التجريبيون المبتدئون في هذا المجال يفترضون بشكل متكرر أن بعض التجارب سيكون من السهل إجرائها. و يعتقدون أن كل ما يحتاجونه هو توصيل الجهاز و تقليب مفتاح التشغيل، و سوف يحصلون على مجموعة كبيرة من البيانات سوف تدهش زملائهم في العمل (أو مشرفينهم). و لا يدركون أن أحد المكونات البسيطة في الجهاز قد لا تعمل و تؤدي إلى فساد التجربة. و ما أن تعود إلى العمل بشكل سليم قد يفسد عنصر آخر من الجهاز، و على مثل ذلك النمط تدور الأحداث. و عندما يعمل الجهاز بدون عيوب نجد أن التجريبيون المبتدئون يقعوا في هوى أخذ القراءات بشكل عشوائي بدون أن يأخذوا بجدية في الإعتبار إلى النتائج التي يحتاجون إلى إشتقاقها من القراءات. فهم يحاولون حل كل القضايا المتعلقة بالبحث العلمي في مرة واحدة و يقومون بتغيير العديد من المتغيرات في نفس الوقت، و ذلك يتم بدون التحكم المطلوب بذله في أخذ القراءات، و في النهاية يضطرون إلى الرجوع إلى الجهاز مرة أخرى ليبذلوا نفس المجهود. و مرة أخرى نرجع و نؤكد على أهمية التخطيط الدقيق لإجراء التجارب المعملية. فعادة في البحث العلمي التجريبي يؤدي الصبر و الإهتمام الكبير إلى أفضل النتائج بأسرع طريقة ممكنة.
قد تبدوا الملاحظات عاليه أنها محبطة للمبتدئين الذين من أجلهم تمت كتابة هذا الكتاب. و لكن الأمر على العكس من ذلك، فهذه الملاحظات تهدف إلى أن تقدم لهم النصيحة حتى يستطيعون تجنب بعضاً من أكثر الشراك وضوحاً. و الأكثر أهمية من ذلك أنها تهدف إلى جعل المبتدئين يعرفون أن بعض المشاكل بعد مزجها بالتخطيط الذكي سوف تؤدي دائما و أبداً إلى النتيجة المرجوة – بيانات دقيقة و ذات معنى.
  أن كل الأعمال التجريبية بالتأكيد ليست لها طبيعة "البحث العلمي". فمعظم القياسات يتم إجراءها ضمن الأعمال الروتينية المتكررة في التطبيقات الصناعية. و هذه القياسات تستدعي قدرات التواصل و المهارة بنفس القدر المطلوب في البحث العلمي، نظراً لانها قد تكون مرتبطة إرتباطاً مباشراً بمقدار الربح و الخسارة في هذه الشركات.
إن الهدف من العرض الموجود في هذا الكتاب هو نقل كم كبير من المعرفة الخاصة بالوسائل التجريبية و تقنيات القياس إلى القراء. و لإنجاز هذا الهدف فسيتم مناقشة عدد كبير من وسائل القياس من وجهة نظر كلاً من نظرية التشغيل و الخصائص الوظيفية. و سيتم التأكيد على الحسابات التحليلية من أجل تعريف القارئ بالنقاط المهمة بالتطور النظري فضلاً عن المعلومات التوصيفية المتعلقة بخصائص التشغيل. و لمزيد من التأكيد على المواضيع التي تمت مناقشتها، سيتم بذل إهتمام خاص بمقدار عدم اليقين الذي قد يظهر في العديد من وسائل القياس.

إن دراسة الأساليب التجريبية هو إمتداد ضروري لكل المواضيع التحليلية. فمعرفة أساليب التحقق من صحة الأعمال التحليلية يضخ حياة و حيوية جديدة إلى النظريات، و الفهم الواضح لصعوبات القياسات التجريبية تجعل المنظرين يتخذون مواقف صحيحة لا يمكن أن يتم إقناعهم بها بأي طريقة أخرى.